تأتي أهمية الحديث في هذا الموضوع؛ أنه عند حصول أي مشكلة تؤرق من في السلطة، تبرز هذه الأخيرة– مباشرة أو من خلال مؤيديها – في وجوه الناس كلمات تغتالهم – وأحيانا تصفيهم – معنوياً، وتصير هذه الكلمات وصمة على ذلك الشخص الذي نُعت بها. وإحدى هذه الكلمات، التي شاعت وذاعت في الخطاب السياسي والاجتماعي المصري، هي كلمة “الفلول”. فأصبحت الكلمة اتهاماً جُزافياً جاهزاً يُوصم به أي شخص يختلف مع الإسلام، أو الإسلاميين، أو الرئيس محمد مرسي.
على خلفية ما سبق، تعلمنا أنه لا يصح لنا الخوض في موضوع قبل تحرير مصطلحاته، فلا يجوز لنا الحديث – مثلاً – عن عنوان كـ”االإسلام والحداثة”، دونما تحرير مصطلحي الإسلام والحداثة، ونقصد بالتحرير تبيان الدلالات اللغوية والعلمية للمصطلحات التي ستستخدم أثناء بحث الموضوع والنقاش حوله. والحقيقة أن هذا الشرط – الأكاديمي – لم يعبأ به الأكاديميون وغيرهم ممن تحدثوا – ولا يزالوا – عن الثورة؛ إذ الحديث عن هذه الأخيرة يتضمن – بالضرورة – الحديث عن “الفلول”. وهنا، يحاول كاتب هذه السطور تحرير هذا المصطلح.
الإيحاءات اللغوية للمصطلح توحي بقلة العدد أو وشوك انتهاءه. وهي إيحاءات لا تنطبق على الوضع القائم عقب اندلاع الثورة. فحقيقة الحال، أن رأس جبيل الجليد – من النظام السابق – هو الذي توارى أو انحسر عن المشهد أو تعرض لمحاكمات، بينما جسم الجبل، بكل أعضاءه، باقٍ، حيٌّ يُرزق. لهذا، فمن ناحية الدلالة اللغوية يتضحُ لنا هشاشة القدرة التفسيرية اللغوية للمصطلح في التعبير عن الشريحة المستهدفة أو المتضمنة فيه.أما الحديث عن الدلالة الاصطلاحية أو العلمية – وهو ما نحاول التقعيد له هنا – فهو حديث مُتخَم يعج بالعديد من الدلالات المتسقة أحياناً، والمتناقضة في أحايين أُخرى. وهنا نستعرض بعض هذه الدلالات (أو الصورة الذهنية لدى الناس) مصحوبة بنقدها أو نقضها، ثم نحاول إلقاء بذرة تعريف أكثر تفسيرية من قبلنا.
1- أعضاء الحزب الوطني الديمقراطي
بعض تصريحات رجالات النظام السابق، قبل الثورة، كانت تشير لوجود خمسة ملايين عضو في الحزب الوطني، وبعضها أشارت لضعف هذا العدد، وأحياناً لأضعافه، بل إنه بأخذ أحد التصريحات – المضحكة والمتعجرفة – لأحد وزراء حكومة أحمد نظيف، والذي كان يقول فيه إن كل المصريين يؤيدون البرنامج الانتخابي للسيد الرئيس، يمكننا بأخذه وضع الشعب كله تحت هذه الخانة. حقيقة الحال، ثمة من انضم للحزب – وهو في الجامعة – كي يُعفى من المصاريف، أو يذهب لرحلات، أو يحصل على سكن، وجلهم لم يكن يعبأ بالسياسة أصلاً. كذلك هناك من انضم له – في الكهولة – كي يترشح للإنتخابات، أو يترقى في وظيفة. وهناك من انضم له وهو لا يعرف أصلاً! وهو الأستاذ محمد الطيب:
محمد الطيب، خريج كلية التجارة، من مواليد مدينة جرجا في محافظة سوهاج، ألقي القبض عليه في إحدى مظاهرات جماعة الإخوان المسلمين ضد تعديلات الرئيس مبارك لدستور 1971 عام 2007، وتم وضعه في مديرية أمن سوهاج. وحينها ذهب والده إلى الأمن وأبرز لهم “كارنيه” الحزب الوطني وعليه اسم محمد وصورته، كي يوضح لهم أن ابنه لا يمكن أن يكون مثل هؤلاء الأولاد الأشقياء. أفرج عن محمد، فيما بعد، لعدم ثبوت الأدلة، ثم حكى لي هذه القصة بعدها بنحو السنة. وكما هو معروف بالنسبة لي، وبالنسبة لأبناء المنطقة، محمد الطيب هو أحد الكوادر الشابة في جماعة الإخوان، ولا يمكن أن يكون بحال عضواً في الحزب الوطني. (اذكر أنه أعطاني يوماً مصحفاً عليه: شباب التيار الإسلامي – الإسلام هو الحل).
لكل هذا، يتضح لنا مدى الظلم الذي سيصيب كثيريين في حالة نُزّلت هذه الدلالة على المصطلح ثم بدورها على الخطاب السياسي والاجتماعي، فضلاً عن الوقائع المادية والتصرفات القانونية.
2- أعضاء أمانة السياسات في الحزب الوطني
وفقاً للبناء التراتبي الخاص بالحزب، فثمة عدة أمانات، إحداها أمانة الشئون السياسية التي يتفرع منها المكتب السياسي، والذي يحدد توجهات الحزب وسياساته. وبحسب المعلومات المتوفرة، فإن أمانة السياسات تحوي أقل من مائتي شخص. وعادة ما تكونت هذه الأمانة من أساتذة جامعة ورجال أعمال وشخصيات ذات خلفية أمنية. وقد يبدو أنه باستصحاب هذه الدلالة ستقل عوامل الخطأ؛ لأن المصطلح حينها سيستغرق عدداً قليلاً من الناس، وهو أمرٌ ليس بصحيح؛ ذلك أن كثيريين ممن تورطوا في الفساد السياسي والمالي كانوا ممنوعين – بموجب القانون (قانون رقم 173 لسنة 2005) – من مباشرة الحقوق السياسية، والتي منها الانضمام للأحزاب السياسية، ومنهم العسكريين والقضاة وضباط الشرطة. وهو ما يشوب هذه الدلالة بالقصور.
3- الأشخاص الذين عارضوا الثورة
ببساطة شديدة، أمي كانت ضد الثورة، وأخي الصغير، وجدتي؛ لأني كنت في الميدان، وكانوا هم في صعيد مصر، أرد على مكالماتهم بعد لأي، ويتابعون الأحداث في خوف على ولدهم. وأغلب أهالينا – نحن أبناء الطبقة الوسطى المحافظة، التي تسود فيها قيم الاستقرار واحترام الكبير – كانوا ضد الثورة لاعتبارات نفسيه واجتماعية. وبتطبيق المصطلح متضمناً هذه الدلالة يكون الفساد والإفساد.
4- الأشخاص الذين عارضوا الثورة، وحرضوا على الثوار
هؤلاء، ومنهم شخصيات عامة (إعلاميون، وشيوخ سلفيون وأزاهرة، وفنانون، ولاعبو كرة قدم)، تشملهم مواد القانون الجنائي التي تنص على عقوبات محددة لكل من حرض على ضرب أو جرح أو قتل، أو سب وقذف وأفسد الأخلاق. وهؤلاء معروفون عند كل الناس، موجودة أحاديثهم على “اليوتيوب”، تمت عملية تصفيتهم اجتماعيا، وبالإمكان تحريك دعوى ضدهم وفقاً للقانون العادي. ومن يتضمنهم هذا البند هم عينة مثالية لـ”الفلولية”.
5- الساسة الذين تفاوضوا مع النظام أثناء الثورة
وهؤلاء من أبرزهم جماعة الإخوان المسلمين (والتي من بين أعضائها الدكتور محمد مرسي، رئيس الجمهورية الحالي، وهو الذي مثّل الجماعة في الوفد الذي تفاوض مع عمر سليمان في 1 فبراير 2011)، ومعظم رموز الأحزاب التي تواجدت أيام نظام مبارك، كما أن من بينهم بعض الساسة المستقلين. وكل هؤلاء لم يتعاملوا مع الثورة باعتبارها “فعل يهدف إلى تغيير راديكالي في بنية الدولة السياسية والاجتماعية ويعيد توزيع الثروة والسلطة”، وأيدوها على حرف. ويمكن التعاطي مع فعلهم هذا باعتباره خيانة للثورة أو تسرع للجري على مكاسب سياسية حالية، أو أنانية سياسية.. الخ. وهؤلاء – أياً كان اختلافنا معهم – لا يمكن أن يُحاسبوا على “إصلاحيتهم” أو عدم ثوريتهم أو حتى خيانتهم السياسية على المستوى القانوني، ولا يمكن – كذلك – وضعهم في خانة واحدة مع من أيدو الثورة حتى خلع حسني مبارك، ولا مع أعضاء أمانة السياسات.
6- المواطنون الذين انتخبوا أحمد شفيق كرئيس للجمهورية
ينضم تحت هذه الخانة، ما يزيد عن ثلثي المسيحيين، وعدد كبير من البرجوازية الكبيرة، وعدد من البروليتاريا، فضلاً عن أكبر عدد ممكن من أعضاء الحزب الوطني الفاعلين قبل الثورة. وبصراحة شديدة، لا يوجد ما يدفع أي مواطن مسيحي لانتخاب المرشح (الرئيس حالياً) محمد مرسي، فهو ينتمي لجماعة إسلامية، عمل نظام مبارك – والأنظمة السابقة له – على تشويهها وترهيب الناس منها، ولم تستطع في تلك الفترة القصيرة تبييض صورتها، وسواء كانت هذه الجماعة سيئة فعلاً أو تم إظهارها بهذه الصورة، ففي كلا الحالتين لا يمكن لوم مسيحيي مصر لأنهم لم يصوتوا لمرشحها، وصوتوا للمرشح أحمد شفيق الذي كان ضد الثورة وحرض عليها، والمتهم في قضايا فساد. كما أن قطاعات البرجوازية الكبيرة – المتحررة عادة – لا يتوافق، ولا يقترب، نموذجها المعرفي مع الدكتور مرسي. وبوضح هذه الدلالة تحت فحصنا يتبين ضعف قدرتها التفسيرية.
كما أسلفت، فالحديث عن هذه الدلالات متخم وواسع، وقصدنا في عرضنا ذكر أبرزها وأكثرها شيوعاً.
عود على بدء، أتصور أن أفضل تعريف لـ”الفلول” أنه: الأشخاص الطبيعيون أو الإعتباريون الذين حرضوا على الثوار، أو كانوا أعضاءاً في أمانة السياسات بالحزب الوطني. ويتضمن هذا التعريف بعض الشخصيات العامة، الذين ذكرنا بعضاً من أنواعهم، كما يتضمن بعض القنوات التلفزيونية، والمؤسسات الحكومية كالداخلية والقوات المسلحة. والنوع الأول تجب ملاحقته قضائياً بتهم التحريض وغيرها من التهم الجنائية، والتي تحوي تهماً مخلّه توجب في طياتهم حرماناً من مباشرة الحقوق السياسية، والثاني تجب إعادة هيكلته. وأي حديث آخر عن الفلولية مزايدة سياسية، أو كلمة يلوكها كل شخص لا يؤمن بالحوار.